
تتجدد يومياً على طرقات المملكة مشاهد محبطة تعكس غياب الحس الإنساني لدى بعض قائدي المركبات، حيث تقف السيارات بوقاحة في الأماكن المحددة بوضوح لخدمة الأشخاص ذوي الإعاقة.
هذه الممارسة المؤسفة لا تمثل مجرد خرق للأنظمة المرورية فحسب، بل تكشف عن نقص فادح في استيعاب مبادئ التضامن الاجتماعي والتعاطف الإنساني.
أحدث الإحصائيات التي نشرتها الإدارة العامة للمرور تُظهر رصد 2464 مركبة انتهكت القوانين بإيقافها في المساحات المخصوصة لذوي الإعاقة، وذلك عبر مناطق المملكة المختلفة من خلال الحملات الاستطلاعية المكثفة التي تستهدف ضبط هذه التجاوزات، حسبما أعلنت الجهات الرسمية المختصة.
الرقابة المرورية.. مهمة توعوية قبل العقابية
التدخل الأمني لضبط هذه الانتهاكات لا يُعتبر مجرد إجراء مؤقت أو عقابي، وإنما يمثل محوراً أساسياً ضمن الاستراتيجية الشاملة لتعزيز النظام وصون حقوق الشرائح المستحقة في المجتمع.
الهدف الرئيسي للجهات المرورية ليس الحصول على إيرادات مالية من المخالفات كما يتصور البعض خطأً، بل العمل على ترسيخ منظومة قيم تقوم على التقدير المتبادل والعدالة الاجتماعية، إضافة إلى نشر ثقافة المرور المتحضرة.
التعدي على المواقف المخصصة لذوي الإعاقة يتجاوز كونه مخالفة إدارية تُدوَّن في سجلات المخالفات، ليصبح اعتداءً واضحاً على الحقوق الأساسية لشريحة مجتمعية تتطلب هذه التسهيلات كحاجة ماسة وليس كرفاهية اختيارية.
التعريف بذوي الإعاقة وتحدياتهم اليومية
قبل أن يقدم أي شخص على استغلال موقف مخصص لغيره، عليه أن يتأمل في وضعه الشخصي ويتساءل: هل أواجه صعوبات في الحركة والانتقال؟ هل أحتاج لوسائل مساعدة للتنقل كالكراسي المتحركة؟ هل أعاني من تحديات في صعود الأرصفة أو الوصول للمداخل؟
ذوو الإعاقة يمثلون أفراداً في المجتمع يتعاملون مع قيود جسدية أو حركية تجعل عملية التنقل مهمة شاقة ومعقدة.
المساحات المحددة لهم في مواقف السيارات ليست امتيازاً إضافياً، وإنما جزء لا يتجزأ من حقهم المشروع في الوصول للمرافق العامة والخدمات المختلفة دون مشقة إضافية.
متى تحولت مخالفة القانون إلى “ذكاء”؟
يبرر كثير من السائقين سلوكهم الخاطئ بحجج واهية مثل “سأتوقف لفترة قصيرة جداً” أو “سأنهي مهمتي بسرعة وأغادر فوراً”، وهم يركنون مركباتهم دون أدنى اعتبار لحقوق الآخرين.
لكن هل فكر أحدهم في إمكانية أن يكون تصرفه هذا سبباً في منع شخص من ذوي الإعاقة من أداء فريضة دينية، أو الوصول لموعد طبي مهم، أو إنجاز معاملة ضرورية؟
الذكاء الحقيقي يكمن في احترام القوانين والالتزام بها، وليس في البحث عن طرق للتحايل عليها أو تجاهلها.
سلوكك في المواقف مرآة وعيك الحضاري
تقدير المساحات المخصصة لذوي الإعاقة لا يقتصر على كونه احتراماً لقوانين السير، بل يُعد مقياساً حقيقياً لمستوى النضج الحضاري للمجتمع.
في البلدان ذات التقدم الاجتماعي، لا تحتاج هذه المسألة لوجود دوريات أمنية أو فرض مخالفات مالية لضمان تطبيقها، فالمواطن بحد ذاته يكون أول من يلتزم بهذه المبادئ طوعياً.
ولكن عندما يتراجع مستوى الوعي المجتمعي، يصبح تطبيق النظام مهمة إجبارية تستدعي الرقابة المستمرة والعقوبات الرادعة.
موقف الإدارة العامة للمرور
صدر التصريح الرسمي من الإدارة العامة للمرور بلهجة حاسمة وواضحة: لن يكون هناك تساهل مع من يتجاوز على حقوق المواطنين.
وشددت الإدارة على أن استغلال الأماكن المحددة لذوي الإعاقة يُشكل مخالفة واضحة تستحق العقوبة المقررة، مؤكدة على استمرارية الحملات التفتيشية دون انقطاع.
هنا يجب التوقف عند مفهوم “الحملات” فهذا المصطلح يشير عادة إلى نشاط مؤقت ومحدود زمنياً، لكن استمراريته وتكراره يكشف عن كون هذه المشكلة متجذرة وتحتاج لتدخل دائم، مما يُظهر وجود استهانة من جانب بعض قائدي المركبات تتطلب ردعاً مستمراً وفعالاً.
الهدف ليس العقوبة بذاتها
الأنظمة المرورية لا تُوضع لتكون مجرد نصوص قانونية جامدة، وإنما تُصمم كأدوات لتهذيب وتقويم السلوكيات المجتمعية.
الغرامة المالية ليست مقصداً نهائياً في حد ذاتها، بل أداة تذكيرية لتعليم الفرد أنه جزء من مجتمع أكبر، وأن لكل عضو فيه حقوقاً يجب احترامها وصونها.
السؤال المطروح: هل ستنتظر حتى تُفرض عليك غرامة مالية لتتعلم الدرس؟ أم أن ضميرك الشخصي هو الرقيب الداخلي الذي يوجه تصرفاتك نحو الصواب؟ التحول في السلوك الإنساني يبدأ من الأعماق، من مستوى الوعي، من التربية السليمة، ومن تحمل المسؤولية الفردية والجماعية.